ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم: ميلاد أمة
في قلب صحراء شبه الجزيرة العربية، وفي عام الفيل الذي شهد حدثاً جللاً، أشرقت الدنيا بميلاد خير البرية، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. لم يكن هذا الميلاد حدثاً عادياً في تاريخ البشرية، بل كان فجراً جديداً انبثق منه نور الهداية، وإيذاناً بميلاد أمة حملت على عاتقها رسالة الإسلام الخالدة، لتغير وجه التاريخ وتؤسس لحضارة إنسانية فريدة.
ظلام الجاهلية وبشائر النور
قبل بزوغ فجر الإسلام، كانت شبه الجزيرة العربية غارقة في ظلمات الجاهلية. عمت الوثنية وعبادة الأصنام، وسادت العصبية القبلية التي مزقت أوصال المجتمع، فكانت الحروب لأتفه الأسباب تستمر لعقود. انتشرت المظالم الاجتماعية، فهُضمت حقوق الضعفاء والنساء، ووأدت البنات خشية العار والفقر. وفي خضم هذا الظلام الدامس، كانت البشرية في أمس الحاجة إلى منقذ يخرجها من التيه إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور.
وفي صبيحة يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، الموافق للعشرين من أبريل عام 571 ميلادية، وُلد النبي الكريم يتيماً في مكة المكرمة. وقد رافقت ولادته إرهاصات وعلامات دلت على عظم شأنه، كانهيار إيوان كسرى، وخمود نار فارس التي كانت تُعبد من دون الله، لتكون هذه الأحداث بشائر بقرب أفول عهود الشرك والظلم.
من شتات القبيلة إلى وحدة الأمة
لم يكن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد زيادة في عدد أفراد قبيلة قريش، بل كان اللبنة الأولى في بناء مفهوم "الأمة". جاء الإسلام الذي حمله النبي الكريم ليلغي الفوارق القائمة على النسب واللون والقبيلة، ويؤسس لرابطة جديدة هي رابطة العقيدة والإيمان بالله وحده. قال تعالى في كتابه الكريم: "إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92).
لقد حارب الإسلام العصبية القبلية المقيتة، وأحل محلها الأخوة الإيمانية. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة، في مشهد فريد يجسد عملياً معنى أن المؤمنين إخوة. وهكذا، تحولت القبائل المتناحرة إلى أمة واحدة، تجتمع على كلمة التوحيد، وتتعاون على البر والتقوى.
مبادئ أمة جديدة: العدل والرحمة والعلم
لم تكن الأمة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم مجرد تكتل بشري، بل كانت أمة حاملة لمبادئ وقيم سامية. فبميلاده، وُلدت مفاهيم جديدة شكلت دستور هذه الأمة:
العدل والمساواة: أرسى الإسلام مبدأ المساواة بين جميع الناس، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وأصبحت العدالة أساس الحكم، تطبق على القوي والضعيف، والغني والفقير.
الرحمة والتكافل: وُصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "رحمة للعالمين". وقد تجلت هذه الرحمة في تعاليمه التي دعت إلى الرفق بالضعفاء، ورعاية اليتيم، وإكرام المرأة التي رفع الإسلام من شأنها بعد أن كانت مهضومة الحقوق في الجاهلية.
العلم والمعرفة: كان أول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ". وبهذا، فتح ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أبواب العلم والمعرفة على مصراعيها، وحث على طلب العلم وجعله فريضة، مما أسس لقيام حضارة إسلامية عظيمة أنارت للعالم دروب التقدم لقرون طويلة.
إرث خالد ومسؤولية متجددة
إن ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد مناسبة للاحتفال، بل هي محطة للتأمل في عظمة الرسالة التي حملها، والأسس التي قامت عليها أمته. إنها دعوة متجددة للمسلمين في كل زمان ومكان للعودة إلى جوهر رسالة نبيهم، والتمسك بالوحدة والأخوة، ونشر قيم العدل والرحمة والعلم التي جاء بها.
فميلاد النبي صلى الله عليه وسلم هو بحق ميلاد أمة، أمة أُخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتكون شاهدة على العالمين. وما أحوج الأمة اليوم إلى استلهام الدروس والعبر من سيرة نبيها وميلاده العظيم، لتعود كما أراد لها أن تكون: خير أمة أخرجت للناس.
كومێنتا خو بنڤبسه ئهگهر ته ههرپسیارهک ههبيت لسهر بابهت مه